مقدمــة
الإخوان فكرة في نفوس أربعة
إسلام الإخوان المسلمين
الإخوان فكرة إصلاحية شاملة
خصائص دعوة الإخوان
منهاج الإخوان المسلمين
الإخوان والهيئات المختلفة
خـاتـمـة
مقدمــة
بِـسْــمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
أيها الإخوان :
كنت أود أن نظل دائما نعمل ولا نتكلم , وأن نكل الأعمال وحدها الحديث عن الإخوان وخطوات الإخوان , وكنت أحب أن تتصل خطواتكم اللاحقة بخطواتكم السابقة في هدوء وسكون من غير هذا الفاصل الذي نحدد به جهاد عشر سنوات مضت لنستأنف مرحلة أخرى من مراحل الجهاد الدائب في سبيل تحقيق فكرتنا السامية .
ولكنكم أردتم هذا , وأحببتم أن تسعدونا بهذا الاجتماع الشامل فشكرا لكم , و لا بأس أن ننتهز هذه الفرصة الكريمة فنستعرض نتائجنا , ونراجع فهرس أعمالنا , ونستوثق من مراحل طريقنا ونحدد الغاية والوسيلة فتتضح الفكرة المبهمة , و تصحح النظرة الخاطئة , و تعلم الخطوة المجهولة , وتتم الحلقة المفقودة , ويعرف الناس الإخوان المسلمين على حقيقة دعوتهم , من غير لبس ولا غموض .
لا بأس بهذا , ولا بأس بأن يتقدم إلينا من وصلته هذه الدعوة و من سمع أو قرا هذا البيان , برأيه في غايتنا و وسيلتنا و خطواتنا فنأخذ الصالح من رأيه , و ننزل على الحق من مشورته , فإن الدين النصيحة لله و لرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم .
أيها الإخوان :
أجدني في غنى عن تحيتكم و شكركم , وعن وصف ما يغمرني من السعادة بموقفي هذا بينكم , ومن السرور و الفرح بلقائكم و من الأمل العظيم بمؤازرتكم و توفيق الله إياكم .
أجدني في غنى عن بيان هذا كله بهذا الفيض من العواطف النبيلة الذي يغمر ج هذا الاجتماع , فكان كل ما فيه ينطق بالحب العميق والارتباط الوثيق و الأخوة الصادقة و التعاون المكين , ووفقكم الله لخير ما يحب ويرضى .
الإخوان فكرة في نفوس أربعة
أيها الإخوان الكرام :
طالعت كثيرا و جربت كثيرا و خالطت أوساطا كثيرة و شهدت حوادث عدة , فخرجت من هذه السياحة القصيرة المدى الطويلة المراحل بعقيدة ثابتة لا تتزلزل , هي أن :
السعادة التي ينشدها الناس جميعا إنما تفيض عليهم من نفوسهم و قلوبهم , و لا تأتيهم من خارج هذه القلوب أبدا , و أن الشقاء الذي يحيط بهم و يهربون منه إنما يصيبهم بهذه النفوس و القلوب كذلك , و إن القرآن الكريم يؤيد هذا المعنى و يوضحه , ذلك قول الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) .
و ما رأيت كلاهما أعمق في فلسفة الاجتماع من قول ذلك :
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها و لكن أخلاق الرجال تضيق
اعتقدت هذا و اعتقدت إلى جانبه أنه ليست هناك نظم و لا تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس البشرية و تهدي الناس إلى الطرق لهذه السعادة كتعاليم الإسلام الحنيف الفطرية الواضحة , و ليس هنا مجال تفصيل هذه التعاليم هذه التعاليم , و لا مجال التدليل على أنها تتضمن هذه النتيجة , و تكفل سعادة البشرية جميعا فلذلك مجال آخر , فضلا عن أننا كلنا فيما أعتقد شركاء في التسليم بصحة هذه النظرية , على أن كثيرا من غير المسلمين يقر بها و يعترف بما في الإسلام من جمال و كمال .
و لهذا وقفت نفسي منذ نشأت على غاية واحدة هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقة و عملا , و لهذا كانت فكرة الإخوان المسلمين إسلامية بحتة في غايتها و في وسائلها , لا تتصل بغير الإسلام ي شيء .
ظلت هذه الخواطر حديثا نفسانيا ومناجاة روحية بها في نفسي لنفسي , و قد أفضي بها إلى كثير ممن حولي , و قد تظهر في شكل دعة فردية أو خطابة وعظية أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس , أو حث لبعض الأصدقاء و العلماء على بذل الهمة و مضاعفة المجهود , في إنقاذ الناس و إرشادهم إلى ما في الإسلام من خير .
ثم كانت في مصر و غيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي و أهابت كوامن في قلبي , و لفتت نظري إلى وجوب الجد و العمل , و سلوك طريق التكوين بعد التنبيه , و التأسيس بعد التدريس , و لا أطيل عليكم بتفصيل حوادث انتهى أمرها و عفت آثارها , و فاء إلى الرشد أو بعض الرشد أصحابها .
و لقد أخذت أفاتح كثيرا من كبار القوم في وجوب النهوض و العمل و سلوك طريق الجد و التكوين , فكنت أجد التثبيط أحيانا و التشجيع أحيانا و التريث أحيانا , و لكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية , و من الوفاء أذكر في هذا المقام المرحوم أحمد باشا تيمور أفسح الله له في جنته , فما رأيته إلا مثالا للهمة المتوثبة و الغيرة المتوقدة , و ما تحدثت إليه في شأن من شؤون الأمة العامة إلا وجدت العقل الكامل و الاستعداد التام و الإلمام الشامل و ترقب ساعة العمل , فرحمه الله و أجزل مثوبته .
و ليت وجهي شطر الأصدقاء و الإخوان ممن جمعني و إياهم عهد الطلب و صدق الود و الشعور بالواجب , فوجدت استعدادا حسنا , و كان أسرعهم إلى مشاركتي عبء التفكير و أكثرهم اقتناعا بوجوب العمل في إسراع و همة , الإخوان الفضلاء : أحمد أفندي السكري , و الأخ المفضال المرحوم الشيخ حامد عسكرية اسكنه الله فسيح جنته , و الأخ الشيخ أحمد عبد الحميد وكثير غيرهم .
و كان عهد و كان موثق أن يعمل كل منا لهذه الغاية , حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة .
ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة ، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء , ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء , وكم كنا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة و الخليون هاجعون يتسكعون بين المقاهي و يترددون على أندية الفساد و الإتلاف , فإذا سألت أحدهم عما يحمله على هذه الجلسة الفارغة المملة قال لك : أقتل الوقت , و ما دري هذه المسكين أن من يقتل وقته إنما يقتل نفسه , فإنما الوقت هو الحياة .
كنا نعجب لهؤلاء الناس و كثير منهم من المثقفين , و من هم أولى منا بحمل هذا العبء , ثم يقول بعضنا لبعض : أليس هذا داء من أدواء الأمة و لعله أخطرها , ألاّ تفكر في مرضها و ألاّ تعمل لعلاج نفسها .
و لهذا و أمثاله نعمل و لإصلاح هذا الفساد , وقفنا أنفسنا فنتعزى و نحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه .
و عمل الزمن عمله فتفرقنا نحن الأربعة فكان أحمد أفندي السكري بالمحمودية , و كان المرحوم الشيخ حامد عسكرية بالزقازيق , و كان الشيخ أحمد عبد الحميد بكفر الدوار , و كنت بالإسماعيلية أذكر قول الشاعر :
بالشام أهلي و بغداد الهوى و أنا بالرقمتين و بالفسطاط جيراني
و في الإسماعيلية أيها الإخوان وضعت أول نواة تكوينية للفكرة , و ظهرت أول هيئة متواضعة نعمل و نحمل لوائها نعاهد الله على الجندية التامة في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمون) و كان ذلك في ذي القعدة سنة 1347 هـ .
إسلام الإخوان المسلمين
و اسمحوا لي إخواني استخدام هذا التعبير , و لست أعني به أن للإخوان المسلمين إسلاما جديدا غير الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه , و إنما أعني أن كثيرا من المسلمين في كثير من المسلمين في كثير من العصور خلعوا عن الإسلام نعوتا و أوصافا و رسوما من عند أنفسهم , و استخدموا مرونته و سعته استخداما ضارا مع أنها لم تكن إلا للحكمة السامية , فاختلفوا في معنى الإسلام اختلافا , و انطبعت للإسلام في نفس أبنائه صور عدة تقرب أو تبعد أو تنطبق على الإسلام الأول الذي مثله رسول الله و أصحابه خير تمثيل .
فمن الناس من لا يرى الإسلام شيئا غير حدود العبادة الظاهرة فإن أداها أو رأى من يؤديها اطمأن إلى ذلك و رضي به و حسبه قد وصل على لب الإسلام , و ذلك هو المعنى الشائع عند عامة المسلمين .
و من الناس من يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل و الروحانية الفياضة , و الغذاء الفلسفي الشهي للعقل و الروح , و البعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة .
و منهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعاني الحيوية العملية في الإسلام فلا يتطلب النظر إلى غيرها و لا يعجبه التفكير في سواها .
و منهم من يرى الإسلام نوع من العقائد الموروثة و الأعمال التقليدية التي لا غناء فيها و لا تقدم معها , فهو متبرم بالإسلام و بكل ما يتصل بالإسلام , و تجد هذا المعنى واضحا في نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية و لم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئا أصلا , أو عرفوه صورة مشوهة بمخالطة من لم يحسنوا تمثيله من المسلمين .
و تحت هذه الأقسام جميعا تندرج أقسام أخرى يختلف نظر كل منها إلى الإسلام عن نظر الآخر قليلا أو كثيرا , وقليل من الناس أدرك الإسلام صورة كاملة واضحة تنتظم هذه المعاني جميعا .
هذه الصور المتعددة للإسلام الواحد في نفوس الناس جعلتهم يختلفون اختلافا بينا في فهم الإخوان المسلمون وتصور فكرتهم .
فمن الناس من يتصور الإخوان المسلمون جماعة وعظية إرشادية كل همها أن تقدم للناس العظات فتزهدهم في الدنيا و تذكرهم بالآخرة .
و منهم من يتصور الإخوان المسلمين طريقة صوفية تعني بتعليم الناس ضروب الذكر و فنون العبادة و فنون العبادة و ما يتبع ذلك من تجرد و زهادة .
و منهم من يظنهم جماعة نظرية فقهية كل نظرهم أن تقف عند طائفة من الإحكام تجادل فيها و تناضل عنها , و تحمل الناس عليها و تخاصم أو تسالم من لم يسلم بها معها .
و قليل من الناس خالطوا الإخوان المسلمين و امتزجوا بهم و لم يقفوا عند حدود السماع و لم يخلعوا على الإخوان المسلمين إسلاما يتصورنه هم , فعرفوا حقيقتهم و أدركوا كل شيء عن دعوتهم علما وعملا , وهذا أحببت أن أتحدث لحضراتكم عن معنى الإسلام و صورته الماثلة في نفوس الإخوان , المسلمين , حتى يكون الأساس الذي ندعو إليه و نعتز بالانتساب له و الاستمداد منه واضحا جليا .
( 1 ) نحن نعتقد أن أحكام الإسلام و تعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا و الآخرة , و أن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئو نفي هذا الظن , فالإسلام عقيدة و عبادة , و وطن و جنسية , و دين ودولة , , و روحانية و عمل , و مصحف و سيف , و القرآن الكريم ينطق بذلك كله و يعتبره من لب الإسلام و من صميمه و يوصي بالإحسان فيه جميعه , و إلى هذا تشير الآية الكريمة : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (القصص:77)
و إنك لتقرأ في القرآن و في الصلاة إن شئت قول الله تبارك و تعالي في العقيدة و العبادة : (وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5) .
وتقرأ قوله تعالى في الحكم والقضاء و السياسة : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)
و تقرأ قوله تعالى في الدين و التجارة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (البقرة:282)
و تقرا قوله تعالى في الجهاد و القتال و الغزو
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ) (النساء:102)
و إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة البارعة في هذه الأغراض نفسها و في غيرها من الآداب العامة و شؤون الاجتماع .
و هكذا اتصل الإخوان بكل بكتاب الله و استلهموه و استرشدوه فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل , وأنه يجب أن يهيمن على كل شؤون الحياة و أن تصطبغ جميعها به و أن تنزل على حكمه , وأن تساير قواعده و تعاليمه و تستمد منها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلاما صحيحا , أما إذا أسلمت في عباداتها و قلدت غير المسلمين في بقية شؤونها , فهي أمة ناقصة الإسلام تضاهئ الذين قال تعالى فيهم : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)
( 2 ) إلى جانب هذا يعتقد الإخوان المسلمون أن أساس التعاليم الإسلامية معينها هو كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم , اللذان إن تمسكت بهما فلن تضل أبدا , و أن كثيرا من الآراء و العلوم التي اتصلت بالإسلام و تلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها و الشعوب التي عاصرتها , و لهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى , و أن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة و التابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم , و أن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به , و لا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معنا.
( 3 ) و إلى جانب هذا أيضا يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب و الأمم لكل الأعصار و الأزمان , جاء أكمل و أسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة و خصوصا في الأمور الدنيوية البحتة , فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون , و يرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق عليها و السير في حدودها .
و لضمان حق الصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل , عني الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية و هي مصدر النظم و مادة التفكير و التصوير و التشكل , فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى و يغسلها من أضرار الغرض و الغاية و يهديها إلى الكمال و الفضيلة , و يزجرها عن الجور القصور العدوان , و إذا استقامت النفس و صفت فقد أصبحت كل ما يصدر عنها صالحا جميلا , يقولون إن العدل ليس في نص القانون و لكنه في نفس القاضي , و قد تأتي بالقانون الكامل العادل إلى القاضي ذي الهوى و الغاية فيطبقه تطبيقا جائرا لا عدل معه , و قد تأتي بالقانون الناقص و الجائر إلى القاضي الفاضل العادل البعيد عن الأهواء و الغايات فيطبقه تطبيقا فاضلا عادلا فيه كل الخير و البر و الرحمة و الإنصاف و من هنا كانت النفس الإنسانية محل عناية كبرى في كتاب الله , و كانت النفوس الأولى التي صاغها هذا الإسلام مثال الكمال الإنساني , و لهذا كله كانت طبيعة الإسلام تساير العصور و الأمم , و تتسع لكل الأغراض و المطالب , و لهذا أيضا كان الإسلام لا يأبى أبدا الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية و أصوله العامة .
لا أحب أيها أن استرسل في هذا البيان فذلك باب و اسع و حسبنا هذه الإلمامة الموجزة تلقي ضوءا على هذا المعنى للفكرة الإسلامية في نفوس الإخوان المسلمين .
الإخوان فكرة إصلاحية شاملة
كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة ، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية ، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته ، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها ، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك ، إن الإخوان المسلمين :
( 1 ) دعوة سلفية : لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله.
( 2 ) وطريقة سنية : لأنهم يحملون أنفسهم علي العمل بالسنة المطهرة في كل شيء ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا .
( 3 ) وحقيقة صوفية : لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ، ونقاء القلب ، والمواظبة علي العمل ، و الإعراض عن الخلق ، والحب في الله ، والارتباط علي الخير .
( 4 ) وهيئة سياسية : لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج ، وتربية الشعب علي العزة والكرامة والحرص علي قوميته إلي أبعد حد .
( 5 ) وجماعة رياضية : لأنهم يعنون بجسومهم ، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ، وأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول : (إن لبدنك عليك حقاً) و إن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدي كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي ، فالصلاة والصوم والحج والزكاة لا بد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزق ، ولأنهم تبعاً لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيراً من الأندية المتخصصة بالرياضة البدنية وحدها .
( 6 ) ورابطة علمية ثقافية : لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة ، ولأن أندية الأخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح .
( 7 ) وشركة اقتصادية : لأن الإسلام يعني بتدبير المال و كسبه من وجهه وهو الذي يقول نبيه صلي الله عليه وسلم : (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ويقول : (من أمسي كالاً من عمل يده أمسي مغفوراً له) ، (إن الله يحب المؤمن المحترف)
( 8 ) وفكرة اجتماعية : لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلي طرق علاجها وشفاء الأمة منها .
وهكذا نري أن شمول معني الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح ، ووجه نشاط الإخوان إلي كل هذه النواحي ، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلي ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعاً ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعاً .
ومن هنا كان كثير من مظاهر أعمال الإخوان يبدو أمام الناس متناقضاً وما هو بمتناقض .
فقد يري الناس الأخ المسلم في المحراب خاشعاً متبتلاً يبكي ويتذلل ، وبعد قليل سكون هو بعينه واعظاً مدرساً يقرع الآذان بزواخر الوعظ ، وبعد قليل تراه نفسه رياضياً أنيقاً يرمي بالكرة أو يدرب علي العدو أو يمارس السباحة ، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص . هذه مظاهر قد يراها الناس متنافرة لا يلتئم بعضها ببعض ، ولو علموا أنها جميعاً يجمعها الإسلام ويأمر بها الإسلام ويحض عليها الإسلام لتحققوا فيها مظاهر الالتئام ومعاني الانسجام ، ومع هذا الشمول فقد اجتنب الإخوان كل ما يؤخذ علي هذه النواحي من المآخذ ومواطن النقد والتقصير.
كما اجتنبوا التعصب للألقاب إذ جمعهم الإسلام الجامع حول لقب واحد هو الإخوان المسلمون.
خصائص دعوة الإخوان
لعل من صنع الله لدعوة الإخوان المسلمين أن تنبت بالإسماعيلية , و أن يكون ذلك على أثر خلاف فقهي بين الأهلين و انقسام دام سنوات حول بعض النقاط الفرعية التي أذكى نار الفرقة فيها ذوو المطامع و الأغراض , و أن تصادف نشأتها عهد الصراع القوي العنيف بين الأجنبي المتعصب و الوطني المجاهد , فكان من أثر هذه الظروف أن تميزت هذه الدعوة بخصائص خالفت فيها كثيرا من الدعوات التي عاصرتها .
و من هذه الخصائص :
( 1 ) البعد عن مواطن الخلاف
( 2 ) البعد عن هيمنة الأعيان و الكبراء
( 3 ) البعد عن الأحزاب و الهيئات
( 4 ) العناية بالتكوين و التدرج في الخطوات
( 5 ) إيثار الناحية العملية الإنتاجية على الدعاية والإعلانات
( 6 ) وشدة الإقبال من الشباب
( 7 ) و سرعة الانتشار في القرى و المدن
1 - البعد عن مواطن الخلاف
فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لابد منه، إذ إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول و الأفهام ، لهذا كان الخلاف واقعاً بين الصحابة أنفسهم ومازال كذلك، وسيظل إلى يوم القيامة، وما أحكم الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ حين قال لأبي جعفر وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ: "إن أصحاب رسول الله ص تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة"، وليس العيب في الخلاف ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم، هذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة، وحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلماً كما قال زيد ـ رضي الله عنه ـ وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة تريد أن تنشر فكرة في بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها .
2 - البعد عن هيمنة الكبراء و الأعيان :
و أما البعد عن هيمنة الكبراء و الأعيان فلانصرافهم عن هذه الدعوات الناشئة المجردة من الغايات و الأهواء إلى الدعوات القائمة , التي تستتبع المغانم و تجر المنافع و لو في ظن الناس لا في حقيقة الحال , و لأننا معشر القائمين بدعوة الإخوان تعمدنا هذا , لأول عهد الدعوة بالظهور , حتى لا يطمس لونها الصافي لون آخر من ألوان الدعوات التي يروج لها هؤلاء الكبراء , و حتى لا يحاول أحد منهم أن يستغلها أو يوجهها في غير الغاية التي تقصد إليها , و ذلك إلى أن كثير من العظماء ينقصه الكمال الإسلامي الذي يجب أن يتصف به المسلم العادي فضلا عن المسلم العظيم الذي يحمل اسم دعوة إسلامية لإرشاد الناس , و على هذا فقد ظل هذا الصنف بعيدا عن الإخوان اللهم إلا قليلا من الأكرمين الفضلاء , يفهم فكرتهم و يعطف على غايتهم و يشارك في أعمالهم و يتمنى لهم التوفيق و النجاح .
3 - البعد عن الهيئات و الأحزاب
وأما البعد عن الاتصال بالأحزاب و الهيئات فلما كان و لا يزال بين هذه الهيئات من التنافر و التناحر الذي لا يتفق مع أخوة الإسلام , و دعوة الإسلام عامة تجمع و لا تفرق و لا ينهض بها و لا يعمل لها إلا من تجرد من كل ألوانه و صار لله خالصا , و قد كان هذا المعنى من قبل عسيرا على النفوس الطامحة , التي تريد أن تصل عن طريق حزبيتها أو جماعتها إلى ما تريد من جاه و مال , لهذا آثرنا أن نتجنب الجميع و أن نصبر على الحرمان من كثير من العناصر الصالحة حتى ينكشف الغطاء , و يدرك الناس بعض الحقائق المستورة عنهم فيعودوا إلى الخطة المثلى بعد التجربة و قد امتلأت قلوبهم باليقين و الإيمان .
و نحن الآن وقد اشتد ساعد الدعوة و صلب عودها و أصبحت تستطيع أن توجه و لا توجه و أن تؤثر و لا تتأثر , نهيب بالكبراء و الأعيان و الهيئات و الأحزاب أن ينضموا إلينا , و أن يسلكوا سبيلنا و أن يعملوا معنا و أن يتركوا هذه المظاهر الفارغة التي لا غناء فيها , و يتوحدوا تحت لواء القرآن العظيم يستظلوا براية النبي الكريم و منهاج الإسلام القويم , فإن أجابوا فهو خيرهم و سعادتهم في الدنيا و الآخرة و تستطيع الدعوة بهم أن تختصر الوقت و الجهود , و إن أبوا فلا بأس علينا أن ننتظر قليلا و نلتمس المعونة من الله و حده حتى يحاط بهم أو يسقط في أيديهم و يضطرون إلى العمل للدعوة أذنابا و قد كانوا يستطيعون أن يكونوا رؤساء , ( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)
4 - التدرج في الخطوات
وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لابد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيراً ما تسير هذه المراحل الثلاث جنباً إلى جنب نظراً لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعاً، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويربي، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك .
ولكن لاشك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار، ومتانة التكوين.
في حدود هذه المراحل سارت دعوتنا ولا تزال تسير، فقد بدأنا بالدعوة فوجهناها إلى الأمة في دروس متتالية وفي رحلات متلاحقة وفي مطبوعات كثيرة وفي حفلات عامة وخاصة، وفي جريدة الإخوان المسلمين الأولى ثم في مجلة النذير الأسبوعية، ولا زلنا ندعو، وسنظل كذلك، حتى لا يكون هناك فرد واحد لم تصله دعوة الإخوان المسلمين على حقيقتها الناصعة، وعلى وجهها الصحيح، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وأظن أننا وصلنا في هذه المرحلة إلى درجة نطمئن عليها وعلى اطراد السير فيها، وصار من ألزم واجباتنا أن نخطو الخطوة الثانية، خطوة الاختيار والتكوين والتعبئة .
خطونا الخطوة الثانية في صور ثلاث:
1 ـ الكتائب: ويراد بها تقوية الصف بالتعارف، وتمازج النفوس والأرواح ومقاومة العادات والمألوفات، والمران على حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، واستمداد النصر منه، وهذا هو معهد التربية الروحية للإخوان المسلمين.
2 ـ الفرق للكشافة والجوالة والألعاب الرياضية: ويراد بها تقوية الصف بتنمية جسوم الإخوان، وتعويدهم الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة، وإعدادهم للجندية الصحيحة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وهذا هو معهد التربية الجسمية للإخوان المسلمين.
3 ـ درس التعاليم في الكتائب أو في أندية الإخوان المسلمين: ويراد بها تقوية الصف بتنمية أفكار الإخوان وعقولهم بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ المسلم معرفته لدينه ودنياه، وهذا هو معهد التربية العلمية والفكرية للإخوان المسلمين، ذلك إلى مختلف نواحي النشاط الأخرى التي يدرب بها الإخوان على الواجب الذي ينتظرهم كجماعة تعد نفسها لقيادة أمة، بل لهداية العالمين.
بعد أن نطمئن على موقفنا من هذه الخطوة نخطو إن شاء الله الخطوة الثالثة، وهي الخطوة العملية التي تظهر بعدها الثمار الكاملة لدعوة الإخوان المسلمين .
مصارحة
أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم :
اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع : إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده . ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها . إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب ، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال ، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات . ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة .
أيها الإخوان المسلمون :
ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف ، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع ، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة . ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، ولا تصادموا نواميس الكون فأنها غلابة ، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها علي بعض ، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد .
أيها الإخوان المسلمون
إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ، وذلك مكفول لكم ما دمتم مخلصين . ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين ، وإما مصيبون فلنا أجر الفائزين المصيبين . علي أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا طريقكم ، ولا إنتاج إلا مع خطتكم ، ولا صواب إلا فيما تعملون ، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم . واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143) .
متي تكون خطوتنا التنفيذية ؟
أيها الإخوان المسلمون :
نحن هنا في مؤتمر أعتبره مؤتمراً عائلياً يضم أسرة الإخوان المسلمين ، وأريد أن أكون معكم صريحاً للغاية فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة :
إن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل ، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ .
يسهل علي كثير ين أن يتخيلوا ، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان ، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل ، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل ، ولكن قليلا منهم يقدر علي حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني . وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله ، وفي قصة طالوت بيان لما أقول ، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل ، العمل القوي البغيض لديها الشاق عليها ، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها .
وفي الوقت الذي يكون فيه منكم ـ معشر الإخوان المسلمين ـ ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسيا روحياً بالإيمان والعقيدة ، وفكرياً بالعلم والثقافة ، وجسمياً بالتدريب والرياضة ، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لحج البحار ، وأقتحم بكم عنان السماء . وأغزو بكم كل عنيد جبار ، فإني فاعل إن شاء الله ، وصدق رسول الله القائل: (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة). إني أقدر لذلك وقتاً ليس طويلاً بعد توفيق الله واستمداد معونته وتقديم إذنه ومشيئته ، وقد تستطيعون أنتم معشر نواب الإخوان ومندوبهم أن تقصروا هذا الآجل إذا بذلتم همتكم وضاعفتم جهودكم ، وقد تهملون فيخطئ هذا الحساب ، وتختلف النتائج المترتبة عليه ، فأشعروا أنفسكم العبء وألقوا الكتائب وكونوا الفرق ، وأقبلوا علي الدروس ، وسارعوا إلي التدريب وانشروا دعوتكم في الجهاد التي لم تصل إليها بعد ، ولا تضيعوا دقيقة بغير عمل .
وقد يظن من يسمع هذا أن الإخوان المسلمين قليل عددهم أو ضعيف مجهودهم ، ولست إلى هذا أقصد وليس هذا هو مفهوم كلامي ، فالإخوان المسلمون والحمد لله كثيرون ، وإن جماعة يمثلها في هذا الاجتماع آلاف من أعضائها كل منهم ينوب عن شعبة كاملة لأكثر من أن يستقل عددها أو ينسي مجهودها أو يغمط حقها ، ولكن أقصد إلى ما ذكرت أولا من أن رجل القول غير رجل العمل , و رجل العمل غير رجل الجهاد , و رجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات .
5 - إيثار الناحية العملية
و أما إيثار الناحية العملية فقد أثارها في نفوس الإخوان و دعا إليها في منهاجهم أمور :
منها ما جاء في الإسلام خاصا بهذه الناحية بالذات , و مخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء فيسرع إليها التلف و الفساد و الموازنة بين هذه النظرة و بين ما ورد في إذاعة الخير والأمر به والمسارعة إلى إعلانه ليتعدى نفسه , أمر دقيق قلما يتم إلا بتوفيق .
و منها نفور الإخوان الطبيعي من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة و التهريج الذي ليس من ورائه عمل , و ما أنتجه في هذه الأمة من أثر سيئ و تضليل كبير و فساد ملموس .
و منها ما كان يخشاه الإخوان من معاجلة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة ينتج عن كليهما تعويق السير أو تعطيل عن الغاية .
كل هذه أمور و ضعها الإخوان في ميزانهم آثروا أن يسيروا في دعوتهم بجد و إسراع و إن لم يشعر بهم إلا من حولهم , و إن لم يؤثر ذلك إلا في محيطهم .
قليل من الناس من يعرف أن الداعية من دعاة الإخوان قد يخرج من عمله المصلحي في عصر الخميس , فإذا هو في العشاء بالمنيا يحاضر الناس , و إذا هو في صلاة الجمعة يخطب بمنفلوط , فإذا هو في العصر يحاضر بأسيوط , و بعد العشاء يحاضر بسوهاج , ثم يعود أدراجه هادئ النفس مطمئن القلب يحمد الله على ما وفقه إليه و لا يشعر به إلا الذين استمعوه .
هذا مجهود لو قام به غير الإخوان لملأ الدنيا صياحا و دعاية , و لكن الإخوان ـ لما قدمت ـ يؤثرون ألا يراهم الناس إلا عاملين , فمن أقنعه العمل فبها , و من لم يؤثر فيه العمل فلن يرشده القول .
قد يقضي الأخ شهرا أو شهرين بعيدا عن أهله و بيته و زوجه و ولده يدعو إلى الله , هو في الليل محاضر و في النهار مسافر , يوما بحزوى و يوما بالعقيق , فيلقي أكثر من ستين محاضرة من شرق القطر إلى غربه , و قد تضم الحفلات التي يحاضر فيها الآلاف من مختلف الطبقات , ثم هو بعد ذلك يوصي ألا يكون محل دعاية أو إعلان .
يعقد الإخوان معسكرا نموذجيا بالأسكندرية قرابة شهر فيكون معسكرا نموذجيا بحق , يجمع رياضة الفكر و الروح إلى رياضة البدن و الجسم , و تتمثل فيه بجلاء وضوح المعاني الرياضية و العسكرية الكاملة , و يدوم ذلك طول هذه الفترة , و يضم تحت خيامه المباركة مائة من الشباب التقي المؤمن , فلا يكون لذلك صداه في غير من حضروه من الإخوان المسلمين .
يعقد مؤتمر كمؤتمركم هذا و هو في الواقع أصدق برلمان لمصر إذ مثلت فيه مديرياتها و مراكزها و قراها و حواضرها من كل الطبقات أصدق تمثيل , و قد حضرتم جميعا لا يحملكم إلى ذلك إلا الرغبة الأكيدة في العمل المنتج , فنوجه إليكم الدعوة و يضمكم معشر الإخوان المسلمين هذا المكان المبارك .
يقوم الإخوان المسلمون بهذا و بغيره من ضروب الإصلاح التي تنتج أحسن الآثار ثم هم بذلك لا يتشدقون و لا يباهون , و لا يذكرون حتى الحقيقة فضلا عن المبالغة و الإغراق , و لو كان بعض هذا النشاط و بعض هذه الأعمال مما يوفق إليه غير الإخوان من الهيئات لملئوا الدنيا صراخا , و لأسمعوا من في المشرق و المغرب , و عجب فنحن في عصر الدعايات .
أيها الإخوان :
ذلك المعنى الذي تقصدون إليه معنى جميل حقا و خطة محمودة عند الله و عند الناس , فادرجوا عليها و لا بأس عليكم , و لكن لا حظوا أنكم الآن و قد أرغمتكم الدعوة على أن تتخطوا الحواجز الخاصة إلى الميادين الواسعة , و قد أظهرت الدعوة نفسها فأخذ الناس يتساءلون عنها و عنكم , و أخذ بعض الفضوليين يتطوع بتصويركم لغيركم و هو لا يدري قليلا و لا كثيرا من شؤونكم , فقد وجب عليكم أن تبينوا للناس غايتكم و وسيلتكم و حدود فكرتكم و منهاج أعمالكم , و أن تعلنوا هذه الأعمال على الناس لا للمباهاة بها و لكن للإرشاد إلى ما فيها من نفع للأمة و خير لأبنائها فاكتبوا إلى النذير و هي لسانكم , و اكتبوا إلى الصحف اليومية و أظنها لا تقف ي سبيلكم , و احرصوا على أن تكونوا صادقين لا تتجاوزون الحقيقة , و أن تكون دعايتكم في حدود الأدب الكامل و الخلق الفاضل و الحرص التام على جمع القلوب و تأليف الأرواح , و استشعروا كلما ظهرت دعوتكم أن الفضل في ذلك كله لله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17) .
6 - إقبال الشباب على الدعوة
و أما إقبال الشباب على الدعوة , و نموها في كثير من الأوساط التي هي أخصب المنابت للدعوات التي هي أخصب المنابت للدعوات من الطبقات العاملة و الوسطى , فتوفيق كبير نحمد الله عليه , فقد أقبل الشباب من كل مكان على دعوة الإخوان يؤمن بها و يؤيدها و يناصرها , و يعاهد الله على النهوض بحقها و العمل في سبيلها .
تقدم ستة من شباب الجامعة منذ سنوات يهبون الله نفوسهم و جهودهم , و علم الله منهم ذلك فأيدهم و آزرهم , فإذا بالجامعة كلها من أنصار الإخوان المسلمين تحبهم و تحترمهم و تتمنى لهم النجاح , و إذا من الشباب الجامعي فئة كريمة مؤمنة تتفانى في الدعوة و تبشر بها في كل مكان .
قل مثل ذلك في الأزهر الشريف , و الأزهر بطبعه معقل الدعوة الإسلامية و موئل الإسلام , فليس غريبا عليه أن يعتبر دعوة الإخوان المسلمين دعوته و أن يعد غايتها غايته , و أن تمتلئ الصفوف الإخوانية و الأندية الإخوانية بشبابه الناهض و علمائه الفضلاء و مدرسيه و وعاظه , و أن يكون لهم جميعا أكبر الأثر في نشر الدعوة و تأييدها و المناداة بها في كل مكان , و لم يقتصر إقبال الشباب على طوائف الطلبة و الفضلاء و من إليهم , بل إن كثيرا من طبقات الشعب المؤمنة أقبل على الدعوة و كان خير معوان في مناصرتها , و إن كثيرا من الشباب كان ضالا فهداه الله و كان حائرا فأرشده الله , و كانت المعصية له عادة فوفقه الله إلى الطاعة , و كان لا يعرف له غاية من الحياة فوضحت أمامه الغاية , (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) (النور:35) .
و إنا لنعتبر ذلك من علامات التوفيق و نلمس كل يوم تقدما جديدا في هذا الباب يدعونا إلى الأمل القوي و المثابرة و مضاعفة الجهود , (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران:126) .
7 - سرعة الانتشار في القرى و المدن
و أما سرعة انتشار الدعوة في القرى و المدن فقد قدمت لكم أن الدعوة نشأت في الإسماعيلية , و ترعرعت في جوها الصافي و درجت على رمالها الممتدة الجميلة , يغذيها و ينميها ما ترى ما ترى كل صباح و مساء من مظاهر الاحتلال الأجنبي و الاستئثار الأوربي بخير هذا البلد , فهذه قناة السويس علة الداء و أصل البلاء , و في الغرب المعسكر الإنجليزي بأدواته و معداته , و في المشرق المكتب العام لإدارة شركة القناة بأثاثه و رياسته و عظمته و مرتباته , و المصري غريب بين كل هذه الأجواء في بلده محروم و غيره ينعم بخير وطنه ذليل , و الأجنبي يعتز بما يغتصبه من موارد رزقه , كان هذا الشعور غذاء جميلا و مدادا طيبا لدعوة الإخوان فبسطت رواقها في منطقة القناة ثم تخطتها إلى البحر الصغير ثم إلى مديرية الدقهلية , تحتل قلوب المؤمنين بها بذرة صغيرة متواضعة , ثم لا تلبث أن تستولي على هذه القلوب و تستغرق شعورها و تفكيرها , و تصبح للرجل أمل الآمال و غاية الغايات فيدعو و يضحي و يبذل .
و خطت الدعوة إلى القاهرة باندماج جمعية الحضارة الإسلامية بدعاتها و أدواتها إلى الإخوان , إيمانا بفكرتهم و إيثارا للعمل مع الجماعة , و زهادة في الألقاب و الأسماء , و احتقارا لهذه الأنانية الفردية التي أفسدت علينا كل عمل , ثم تبع ذلك تكون مكتب الإرشاد العام بالقاهرة و إشرافه على شعب الجماعة الناشئة في الأقاليم و البلدان , و عمله الدائب على نشر الفكرة و إيصالها للبلدان التي لم تتصل بها بعد .
و دأب المكتب بعد ذلك يقتطع أعضاؤه من قوتهم و أوقاتهم و جهودهم ما يستعينون به على خدمة عقيدتهم في عفة الأسد , و في طهارة ماء الغمام , لا يمدون لأحد يدا و لا يسألون كبيرا و لا هيئة شيئا , و لا يأخذون من مال حكومة و لا يطلبون معونة أحد إلا الله , حتى انتشرت شعب الإخوان بسرعة فائقة في جميع نواحي القطر المصري من أسوان إلى الإسكندرية إلى رشيد إلى بورسعيد إلى السويس إلى طنطا , إلى الفيوم إلى بني سويف , إلى المنيا , إلى أسيوط , إلى جرجا , إلى قنا , و فيما بين ذلك من المراكز و القرى .
و لم تقف عند هذه الحدود المصرية بل تجاوزتها إلى القسم الجنوبي من الوطن الغالي , إلى السودان المفدى , ثم إلى بقية أجزاء الوطن الإسلامي العزيز : سوريا بأقسامها شرقا , و المغرب بأقسامه غربا , ثم إلى غير ذلك من بقية بلادنا الإسلامية المباركة .
كنا نوجه الدعوة و نعمل على انتشارها , أما الآن فقد صارت الدعوة تسبقنا إلى البلاد و القرى و تضطرنا إلى ملاحقتها و أداء حقوقها مهما كان في ذلك من عنت و من إرهاق , و المهم أن الصلة بين هذه الهيئات كلها ليس مجرد التشابه في الاسم أو الوحدة في المقصد العام , كلا بل إنها أقوى الصلات جميعا , إنها صلة الحب العميق و التعاون الوثيق ,و الارتباط القدسي المتين , و الالتفاف التام حول محور الدعوة و مركزها , و الوحدة و الشاملة في الألم و الأمل و الجهاد و العمل , و الوسائل و الغايات و المناهج و الخطوات , و ليس بعد ذلك زيادة لمستزيد .
و ليست هذه الهيئات في البلدان القرى مقتصرة في عملها على تنفيذ تعليمات المكتب الرئيسي لها بالقاهرة , بل إنها تجد و تعمل في مناحي الخدمة العامة فتبني أنديتها , و كثير منها قد بنى داره و أصبحت ملكا خالصا له خاصا به , و كثير منها كذلك قام بالكثير من المشروعات الخيرية و الاقتصادية و الاجتماعية , و جميعها دائمة النشاط جمة الإنتاج كما أن صلة المكتب بفروعه و هيئاته المختلفة ليست صلة الرئيس بالمرؤوس , و ليس صلة الإدارة البحتة و الإشراف العلمي فقط ,و لكنها صلة فوق ذلك كله : صلة الروح أولا , و صلة أفراد الأسرة الواحدة بعضهم ببعض , التزاور في الله , فدعاة الإخوان يزورن إخوانهم و يختلطون بهم و يعرفون أهم ما يتصل بحياتهم و شؤونهم الخاصة و العامة , و لم يتوفر ذك لهيئة من الهيئات القائمة فيما أعلم , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
أيها الإخوان :
لا أكتمكم أني مزهو بهذه الوحدة الإخوانية الصادقة , فخور بهذا الارتباط الرباني القوي المتين , عظيم الأمل في المستقبل , ما دمتم كذلك أخوة في الله متحابين متعاونين , فاحرصوا على هذه الوحدة فإنها سلاحكم و عدتكم .
و عن كثيرا من الناس ليتساءل : و من أين يقوم الإخوان المسلمون بنفقات هذه الدعوة , و هي نفقات كثيرة تعجز الأغنياء فضلا عن الفقراء ؟
ألا فليعلم هؤلاء و ليعلم غيرهم أن الإخوان المسلمين لا يبخلون على دعوتهم يوما من الأيام بقوت أولادهم و عصارة دمائهم و ثمن ضرورياتهم , فضلا عن كمالياتهم و الفائض من نفقاتهم , و أنهم يوم أن حملوا هذا العبء عرفوا جيدا أنها دعوة لا ترضى بأقل من الدم و المال , فخرجوا عن ذلك كله لله و فقهوا معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة:111) , فقبلوا البيع و قدموا البضاعة عن رضا و طيب نفس , معتقدين أن الفضل كله لله , فاستغنوا بما في أيديهم عما في أيدي الناس , و منحهم الله البركة في القليل فأنتج الكثير .
إلى الآن أيها الإخوان لم يمنح مكتب الإرشاد العام إعانة واحدة من حكومة أيا كانت , و ها هو يباهي و يفاخر و يتحدى الناس جميعا أن يقول أحدهم إن هذا المكتب قد دخل خزانته قرش واحد من غير جيوب أعضائه , و لسنا نريد إلا هذا ، ولن نقبل إلا من عضو أو من محب ، ولن نعتمد علي الحكومات في شيء ، ولا تجعلوا في ترتيبكم ولا منهاجكم ذلك ولا تنظروا إليه ولا تعملوا له ، (وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (النساء:32).
تلك أيها الإخوان بعض خصائص دعوتكم ، انتهزت هذه الفرصة لأتحدث إليكم عنها ، وأنتقل بعد ذلك إلى ناحية هامة من نواحي الدعوة قد يلتبس الأمر في موقف الإخوان منها علي كثير من الناس ، وربما خفي علي بعض الإخوان أنفسهم حتى نحدد معاً ونكشف معاً ما عسي أن يكون من إبهام .
منهاج الإخوان المسلمين
الغاية والوسيلة
أظنكم أيها الاخوة الفضلاء قد عرفتم من هذا الحديث الطويل غاية الإخوان ووسيلتهم ومهمتهم تماماً .
إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل علي صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها : صيغة الله ومن أحسن من الله صيغة وأن وسيلتهم في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة علي هذه التعاليم حتى يكونوا قدوة لغيرهم في التمسك بها والحرص عليها والنزول علي حكمها ؛ وأنهم ساروا إلى غايتهم في حدود وسيلتهم فوصلوا إلى درجة من النجاح يطمئنون إليها ويحمدون الله عليها ، و أظنني لست في حاجة إلي مزيد شرح أو بيان في هذه الناحية .
الإخوان والقوة والثورة
ويتساءل كثير من الناس : هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم ؟ وهل يفكر الإخوان المسلمين في إعداد ثورة عامة علي النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر