الإخوان و مصر الفتاة
بهذه المناسبة لابد لي أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من جماعة مصر الفتاة , لقد تكونت هذه جماعة الإخوان منذ عشر سنين و تكونت جماعة مصر الفتاة منذ خمس سنين , فجمعية الإخوان تكبر جمعية مصر الفتاة بضعف عمرها تماما , و مع هذا أيضا شاع في كثير من الأوساط أن جماعة الإخوان من شعب مصر الفتاة , و سبب ذلك أن مصر الفتاة اعتمدت على الدعاية و الإعلان في الوقت الذي آثر فيه الإخوان العمل و الإنتاج , و ما علينا من ذلك كله فسواء أكان الإخوان هم الذين رسموا لمصر الفتاة طريق الجهاد و العمل للإسلام أم أن مصر الفتاة هي التي أظهرت الإخوان و أبرزتهم للناس , و هم قد ولدوا قبلها و سبقوها إلى الجهاد و الميدان بخمس سنوات أي بمثل عمرها , و ذلك أمر نظري لا يقيم له الإخوان وزنا , و لكن الذي أنبه أريد أن إليه في هذه الكلمة أن الإخوان المسلمين لم يكونوا يوما من الأيام في صفوف مصر الفتاة و لا عاملين لها , و لا أقصد بذلك أن أنال منها أو من القائمين بدعوتها و لكن أقول تقريرا للواقع , و أن جريدة مصر الفتاة هاجمت الإخوان و اتهمتهم تهما غير صحيحة و زعمت أنهم يعتدون عليها و يتهمونها و ذلك غير صحيح أيضا , و نحن معشر الإخوان لم نعقب على ما كتب أهمية , و لا نحب أن نؤاخذ بشيء منه , و أرجو أن يكون ذلك هو شعور الإخوان جميعا .
و أن كثيرا من الناس يود لو اتحدت جماعة مصر الفتاة مع الإخوان المسلمين , و هذا شعور ما من شك في أنه جميل نبيل فليس أجمل من الوحدة و التعاون على الخير , و لكن من الأمور ما ليس يفصل فيه إلا الزمن وحده , في مصر الفتاة من لا يرى الإخوان إلا جماعة وعظية و ينكر عليهم كل ما سوى ذلك من منهاجهم , و في الإخوان من يعتقد أن مصر الفتاة لم ينضج في نفوس كثيرا من أعضائها بعد المعنى الإسلامي الصحيح نضجا يؤهلهم للمناداة بالدعوة الإسلامية خالصة سليمة , فلنترك للزمن أداء مهمته و إصدار حكمه و هو خير كفيل بالصقل و التميز .
و ليس معنى هذا أن الإخوان سيحاربون مصر الفتاة بل إنه ليسرنا أن يوفق كل عامل للخير و إلى الخير , و لا يحب الإخوان أن يخلطوا البناء بهدم , و في ميدان الجهاد متسع للجميع .
ذلك موقفنا من مصر الفتاة مادامت قد أعلنت أنها ليست حزبا سياسيا , و أنها تعمل و ستظل تعمل للفكرة الإسلامية و لمبادئ الإسلام , و في ذلك الواقع انتصار جديد لمبادئ الإخوان المسلمين .
بقي أمر أخير ذلك هو موقف الإخوان من مصر الفتاة في قضية تحطيم الحانات , و معلوم أنه ما من غيور في مصر يتمنى أن يرى فوق أرضها حانة واحدة , و قد ألقى الإخوان تبعة هذا التحطيم على الحكومة قبل الذين فعلوه , لأنها هي التي أحرجت شعبها المسلم هذا الإحراج و لم تفطن إلى ذلك التغيير النفساني , و الاتجاه الجديد القوي الذي طرأ عليه من تقديس الإسلام و الاعتزاز بتعاليمه , و قديما قيل : (قبل أن تأمر الباكي بالكف عن البكاء , تأمر الضارب بالكف أن يرفع العصا) , و نحن نعتقد أن هذا التحدي لم يحن وقته بعد , و لابد من تخير الظروف المناسبة أو استخدام منتهى الحكمة فيه , و إنفاذه بصور أخف ضررا و أبلغ في الدلالة على المقصد , كلفت نظر الحكومة إلى واجبها الإسلامي , و بالرغم من أن المقبوض عليهم لم يعترفوا , فقد وجه الإخوان إلى معالي وزير العدل , يلفتون نظر معاليه فيه إلى وجوب النظر في هذه القضية نظرة خاصة تتناسب مع الدافع الشريف فيها , و أن يسرع بإصدار تشريع يحمي البلاد من هذه المهالك الخلقية .
موقف الإخوان من الدول الأوربية
بعد هذا البيان عن موقف الإخوان المسلمين , الذي يمليه عليهم الإسلام , في أهم القضايا الداخلية , يحسن أن أتحدث إلى حضراتكم عن موقفهم من الدول الأوربية :
الإسلام كما قدمت يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة و يشارك بعضها بعضا في الآمال و الآلام , و أي عدوان يقع على واحدة منها أو على فرد من المسلمين فهو واقع عليهم جميعا .
أضحكني و أبكاني حكم فقهي رأيته عرضا في كتاب (الشرح الصغير على أقرب المسالك) قال مؤلفه : (مسألة امرأة مسلمة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها و افتداؤها و لو أتي ذلك على جميع أموال المسلمين) , و رأيت مثله قبل ذلك في كتاب ( البحر في مذهب الأحناف ) , رأيت هذا فضحكت و بكيت و قلت لنفسي : أين عيون هؤلاء الكاتبين لتنظر المسلمين جميعا في أسر غيرهم من أهل الكفر و العدوان ؟؟
أريد أن استخلص من هذا أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ , و أن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله , هذه واحدة , و الثانية أن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم , سادة في أوطانهم , بل ليس ذلك فحسب , بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول في دعوتهم و الاهتداء بأنوار الإسلام التي اهتدوا بها من قبل .
و من هنا يعتقد الإخوان المسلمين أن كل أمة اعتدت و تعتدي على أوطان الإسلام دولة ظالمة لابد أن تكف عن عدوانها و لابد من أن يعد المسلمون أنفسهم و يعملوا متساندين على التخلص من نيرها .
إن إنجلترا لا تزال تضايق مصر رغم محالفتها إياها , و لا فائدة في أن نقول إن المعاهدة نافعة أو ضارة أو ينبغي تعديلها أو يجب إنفاذها فهذا كلام لا طائل تحته و المعاهدة غل في عنق مصر و قيد في يدها ما في ذلك شك , و هل تستطيع أن تستطيع أن تتخلص من هذا القيد إلا بالعمل و حسن الاستعداد ؟ فلسان القوة هو أبلغ لسان , فلتعمل على ذلك و لتكتسب الوقت إن أرادت الحرية و الاستقلال .
و إن إنجلترا لا تزال تسئ إلى فلسطين و تحاول أن تنقص من حقوق أهلها , و فلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام و باعتبارها مهد الأنبياء , و باعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله , ففلسطين دين على إنجلترا للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى توفيهم فيه حقهم , و إنجلترا تعلم ذلك العلم , ذلك ما حداها إلى دعوة ممثلي البلاد الإسلامية إلى مؤتمر لندن , و آنا ننتهز هذه الفرصة فنذكرها بأن حقوق العرب لا يمكن أن تنقص , و بأن هذه الأعمال القاسية التي يدأب ممثلوها على ارتكابها في فلسطين ليست مما يساعد على حسن ظن المسلمين بها , و خير لها أن تكف هذه الحملات العداونية عن الأبرياء الأحرار , و إنا لنبعث لسماحة المفتي الأكبر من فوق هذا المنبر أخلص تحيات الإخوان المسلمين بها و أطيب تمنياتهم , و لن يضر سماحته و لن يضير آل الحسيني أن تفتش دورهم و يسجن أحرارهم , فذلك مما يزيدهم شرفا إلى شرفهم و فخارا إلى فخارهم , و نذكر الوفود الإسلامية بمكر إنجلترا و خداعها و بوجوب القيام على حقوق العرب كاملة غير منقوصة .
و بهذه المناسبة أذكر الإخوان بأنه قد تألفت لجنة عامة بدار الشبان المسلمين من الجمعيات الإسلامية جميعا , للتعاون على إصدار قرش موحد يوزع من أول السنة الهجرية إغاثة لفلسطين المجاهدة , و سيحل هذا الطابع محل كل الطوابع المختلفة لكل الهيئات , فالوصية للإخوان أن يبذلوا جهدهم في تشجيع هذه اللجنة بتوزيع طوابعها حين صدورها , و بتصفية ما قد يكون موجودا لديهم من حساب الطوابع القديمة و إعادتها إلى المكتب لإعدامها .
و لنا حساب بعد ذلك مع إنجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق , و التي يفرض الإسلام على أهلها و علينا معهم أن نعمل لإنقاذها و خلاصها .
أما فرنسا التي ادعت صداقة الإسلام حينا من الدهر فلها مع المسلمين حساب طويل , و لا ننسى لها هذا الموقف المخجل مع سوريا الشقيقة , و لا ننسى لها موقفها في قضية المغرب الأقصى و الظهير البربري , و لا ننسى أن كثيرا من إخواننا الأعزاء , شباب المغرب الأقصى الوطني الحر المجاهد , في أعماق السجون و أطراف المنافي , و سيأتي اليوم الذي يصفى فيه هذا الحساب , (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140) .
و ليس حسابنا مع إيطاليا بأقل من حسابنا مع فرنسا , فطرابلس العربية المسلمة الجارة القريبة العزيزة , يعمل الدوتشى و رجاله على إفنائها و إبادة أهلها و استئصالها و محو كل أثر للعروبة و الإسلام منها , و كيف يكون فيها أثر للعروبة و الإسلام و قد اعتبرت جزءا من إيطاليا ؟ و لا يجد الدوتشي بعد ذلك مانعا يمنعه من أن يدعي أنه حامي الإسلام و أن يطلب بهذا العنوان صداقة المسلمين !!
أيها الإخوان المسلمون :
هذا الكلام يدمي القلوب و يفتت الأكباد ! و حسبي هذه الفواجع في هذا البيان , فتلك سلسلة لا آخر لها , و انتم تعرفون هذا , و لكن عليكم أن تبينوه للناس , و أن تعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال ، فضلاً عن السيادة وإعلان الجهاد ، ولو كلفهم ذلك الدم والمال فالموت خير من هذه الحياة , حياة العبودية و الرق و الاستذلال ! و أنتم إن فعلتم ذلك و صدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله :
(كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21) .
خـاتـمـة
أيها الإخوان المسلمون :
تقدمت إليكم في هذا البيان بخلاصة وافية موجزة عن فكرتكم في مظهرها الخاص , و اليوم كنت احب أن استعرض معكم بعض المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية القائمة في المجتمع المصري , و إن شئتم فقولوا الإسلامي فإن الداء يكون واحدا في الجميع , لولا ضيق الوقت , و لولا أن ينحصر في واحدة هي : ضعف الأخلاق و فقدان المثل العليا , و إيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة , و الجبن عن مواجهة الحقائق , و الهروب من تبعات العلاج , و الفرقة قاتلها الله , هذا هو الداء , و الدواء كلمة واحدة أيضا هي ضد هذه الأخلاق , هي علاج النفوس أيها الإخوان و تقويم أخلاق الشعب :
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9-10) .
أيها الإخوان المسلمون :
لقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم علي دعائم قوية من الإيمان بالله ، و الزهادة في متعة الحياة الفانية وإيثار دار الخلود ، والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق ، وحب الموت في سبيل الله والسير في ذلك كله علي هدي القرآن الكريم .
فعلي هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم و أصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلي الخير ، (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) (محمد:35) .
أيها الإخوان المسلمون :
لا تيئسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين ، وحقائق اليوم أحلام الأمس ، وأحلام الأمس ، وأحلام اليوم حقائق الغد . ولا زال في الوقت متسع ، ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد . والضعيف لا يظل ضعيفاً طول حياته ، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5) .
إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام ، وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة ، وإن العالم ينظر دعوتكم دعوة الهداية والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام , وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وترجون من الله ما لا يرجون ، فاستعدوا واعملوا اليوم ، فقد تعجزون عن العمل غداً .
لقد خاطبت المتحمسين منكم أن يتريثوا و ينتظروا دورة الزمان ، و إني لأخاطب المتقاعدين أن ينهضوا و يعملوا فليس مع الجهاد راحة :
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69)
وإلي الأمام دائماً ...
والله أكبر ولله الحمد
حسـن البنــا